الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال بعض المفسرين القرأن لان ما فيه موافق للتوراة غالبا {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} عن التحاكم إليه {وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} عنه مع أن الواجب يدعوهم للانقياد لأحكامه والإذعان لحكمه {ذلِكَ} عدم قبولهم وإعراضهم {بأنهمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} بقدر أيام عبادتهم العجل الواقعة من أسلافهم {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)} من زعمهم ذلك ومن قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، قال ابن عباس: دخل رسول الله على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله، فقال له فيهم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم، قال إن إبراهيم كان يهوديا، فقال صلّى الله عليه وسلم هلموا إلى التوراة لتحكم بيننا، فأبيا فنزلت.وقيل إن رجلا زنى بامرأة فقضى رسول صلّى الله عليه وسلم برجمه، فأنكرا عليه، فقال ذلك، فنزلت.قال تعالى مندّدا صنيعهم هذا {فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ}.المحقق وقوعه الثابت جمع الناس فيه {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} جزاء ما قدمت في الدنيا من العمل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)} بزيادة على جزائهم ولا نقص من ثوابهم، وتشير هذه الآية إلى التعجب من حال المذكورين فيها في الآخرة، إذ تخرس ألسنتهم الطوال فيها وتخمد أنفسهم الشامخة وتقتصر همتهم المتكابرة فيبتهون، وتشخص أبصارهم فيذلون، وتفيد أن من دعي إلى الاحتكام إلى كتاب الله وجبت عليه الإجابة، وتومئ إلى أن مجرد الانتماء إلى الأديان أو الانتساب إلى الأنبياء أو الاتصال بالأولياء لا يكون سببا لسعادة الإنسان، ولا مدادا إلى نجاته من عذاب الله، بل لابد من العمل بالشريعة والطاعة إلى الأوامر أو النواهي، لأن من الحمق أن يدعي الرجل التمسك بدين لا يخضع لحكمه، ومن الخطأ أن يدعي الانقياد إلى الرسل ولا يعمل بإرشادهم ونصحهم، ومن الجهل أن يتلو كتابا لا يفقه معناه ولا يميل لمرماه، ومن الغرور أن يتكل على ما لم يعتقد صحته.هذا وبعد أن بين الله تعالى لرسوله ما يقوله أهل الكتاب من التعنت وما يتذرعون به من الإعراض عن الإيمان أراد أن يبين له أن السر في ذلك هو إرادته لا غير فقال جل قوله يا سيد الرسل {قُلِ اللهمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ أنك عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} ومن بعض قدرتك أنك {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} بصورة ظاهرة غير محسوسة ومعلومة غير معروفة، راجع الآية 49 من سورة الأنفال المارة فيما هو من هذا القبيل.أما معنى قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فقد مرّ في الآية 13 من سورة فاطر وهي مبدوءة بالياء كهذه، ولا يوجد في القرآن آية من نوعها مبدوءة بالتاء غير هذه، فراجعها.{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)} تقدم تفسير مثلها كثيرا.قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارسل والروم في أمته، وقالت اليهود لا نطيع رجلا ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية.
أي ليس الحمق عنك بمفارق بل هو ملازم لك ما دمت على هذه الحالة وقول الآخر: وهذا تكرر النهي عن ذلك في القرآن العظيم كما سيأتي في الآيتين المذكورتين والآية 54 من سورة المائدة وأول سورة الممتحنة وآخر سورة المجادلة الآتيات، فضلا عما جاء في الأحاديث الصحيحة من تحذير موالاتهم بصداقة أو مصاعرة أو قرابة أو نسبة أو لأمر ما من أسباب المعاشرة والتقرب إليهم، لأن المحبة يجب أن تكون للّه وفي الله ومن أجله، والبغض كذلك في سبيل الله ولا نتهاك حرماته، ولأجل أوليائه، وهذا أصل من أصول الدين التي يجب التقيد فيها، وهذا لا يعني عدم مراعاة حقوقهم ومحافظتهم وكف الأذى عنهم وعيادتهم في الأفراح والأتراح وزيارتهم ومجالستهم وغيرها، لأنه حق على المسلمين كلهم لقوله صلّى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا إذا قاموا بالشروط المأخوذة عليهم وأدّوا الجزية المفروضة عليهم، أما إذا خالقوا وتجاوزوا ونقضوا فلا، والحب المذموم هو الذي يوجب ضررا دينيا أو دنيويا لعامة المسلمين وخاصتهم، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المشار إليها آنفا إن شاء الله تعالى القائل: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} فتخافوا فتنة محققة أو بغلبة الظن تضر بالمسلمين وليس بوسعكم دفعها ولا تجدون من يعصمكم منها، فإنه يجوز لكم موالاتهم ظاهرا مع الكراهة الباطنة كالمسلم المنفرد في دار الحرب، وفيما إذا ظهروا على المسلمين والعياذ بالله، ففي هاتين الحالتين وشبههما فلا بأس من مداهنتهم ومداراتهم كمن أكره على الكفر، فإنه يجب عليه أن يكون قلبه مطمئنا بالله والإيمان به كما بيناه في الآية 106 من سورة النحل، ويشترط أن يكون الخوف صحيحا، وأن يكون القتل أو تلف العضو محققا أو بغلبة الظن، لأن دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان واجب، وإلا فلا يجوز حتى أنه لو صبر على القتل ولم باطنهم في أمر المسلمين فهو خير له، وله عند الله الأجر العظيم لأخذه بالعزيمة وترك الرخصة، لأن الرخصة إنما تباح إذا لم ينشأ عنها مضرة عامة للمسلمين فإذا تحقق حصولها ولو بغالب الظن فليس له الأخذ بها، تدبر {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} من أن تخالفوا أمره أو تولوا أعداءه إذ يشتد غضب الله لهذين لأمرين أكثر من غيرهما {وَإِلَى الله الْمَصِيرُ (28)} والمرجع فلا مهرب لكم أيها الناس منه.واعلموا أن من تيقّن أن مرجعه إلى الله عمل لما به رضاء ولم يقدم على ما نهاه.هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما ذهب رسول الله إلى بدر، وكان تبعه رجل من المشركين ذر جرأة ونجدة، وان المسلمين فرحوا به، فلما رآه الرسول قال له ارجع فلن أستعين بمشرك ويروون هذا عن عائشة رضي الله عنها فلا نصيب له من الصحة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم أي أعطاهم من الغنيمة شيئا رآه، لأن الرضخ عطاء غير كثير أقل من سهم المجاهد، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، فالاستعانة بهم جائزة بشرط الحاجة والوثوق، وبدونهما لا، وعلى هذين الشرطين يحتمل خبر عائشة إن صح، وما رواه الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وله خلفاء من اليهود، فلما خرج صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معك، فستظهر بهم على العدو، بعيد أيضا، لأن حادثة الأحزاب لم تقع قبل، أو عند نزول هذه هذه الآية وانطباقها عليها لا يعني أنها نزلت فيها، وكثير من الآيات مما نزل في مكة ينطبق على حوادث وقعت في المدينة وبالعكس، فلا يقال إنها سبب للنزول.وعلى هذين الشرطين جاز التزوج بالكتابيات واتخاذهن والرجال منهم خدما، أما من قال بعدم جوازهم عمالا واستخدامهم بالدواوين الحكومية فهو مقيد بنفي هذين الشرطين أيضا، أما إذا كانوا متلبسين بالشرطين المذكورين وهما الحاجة والوثوق فلا بأس، تدبر.وكونهم من أهل الذمة الذين تنبغي مجاملتهم واحترامهم ومخالطتهم بالحسنى يؤيد ما نحن فيه، لأن هذا من البر الذي أمرنا الله تعالى به في الآية 8 من سورة الممتحنة الآتية فراجعها.وقالوا أنزلت هذه الآية في حاطب ابن بلتعة، أو في عبد الله بن أبي بن سلول، وأضرابه من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهي عامة في كل من هذا شأنه وفي من يظهر هو عورات المسلمين لأعدائهم خاصة، وما ذكرناه أعلاه الحكم الشرعي في هذه الآية، ومنه يؤخذ عدم جواز ولاية الكافر على المسلم، بأن يكون فيما أو ووصيا عليه، ولا يعقل المسلم جناية الكافر ولا الذمي لما فيه من الولاية له والنصر وان الاتقاء المرخص به في هذه الآية بشترط فيه تحقق تلف النفس أو بعض الأعضاء، أو ضرر كبير يحل فيه، والأحسن أن يأخذ بالعزيمة إذا كان فيه دفع ضرر عام عن المسلمين، أو فيه إعزاز دين المسلمين فيما يتعلق بالحروب وغيرها.وتومئ هذه الآية إلى جواز عقد المعاهدات والاتفاقات معهم إذا ضمن فيها مصلحة المسلمين، لأن النهي لا يمنع من هذا.قال تعالى يا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء الذين يوالون الكفرة خلسة {إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ} من مودتهم ومحبتهم {أَوْ تُبْدُوهُ} غير مبالين به ولا بإخوانكم المؤمنين {يَعْلَمْهُ الله} ويعاقبكم عليه وكيف يخفى عليه حالكم هذا وهو يطلع {وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (29) لا يعجزه من وما فيهما، واحذروا أيها الناس {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} مثل ما عملت لم يزد ولم ينقص {وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} محضرا أيضا كما عملته، وحذف لفظ محضر من هذه الجملة لدلالة وجوده في الأولى، كما يحذف مثله من الأول بدلالة وجوده في الثانية، وهو كثير في القرآن، ومن محسنات البديع في الكلام ولبحثه صلة في الآية 86 من سورة النساء الآتية.وإن النفس التي عملت السوء {تَوَدُّ} في ذلك اليوم العصيب {لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ} بين عملها السيء {أَمَدًا بَعِيدًا} زمانا ومكانا بحيث لا تراه {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} كررت هذه الجملة تأكيدا لزيادة الاعتناء بالاجتناب {وَالله رَؤُفٌ 30} ولذلك يحذرهم بالتباعد عما يضرهم لئلا يؤدي بهم إلى الهلاك.
|